الأربعاء، 26 أغسطس 2009

حافظة اوراق الخريف

بالرغم من سعادتى الغامرة فى هذا الصباح إلا أنى استيقظت على أنباء تحطم و سقوط و غرق الطائرة القادمة إلى القاهرة من باريس ، ترحمت على أرواح الضحايا وتصورت بشاعة الكارثة التى أسكنت مئات البشر فى قاع البحر .
وقفت طويلاً أمام مرآتى ربما أطول من أى وقت مضى ، انتهيت من زينتى حتى صرت كزيتونة لامعة ترتدى أديم كرزة حمراء ، عبرت فى الدرب القصير الواصل بين بوابة الطريق وباب المنزل ، داست قدمى أول طرد خريفى من أوراق شجر الفيكس المصطفة على جوانب الدرب القصير
كان أحساسى بالحياة فى أوجه حتى كدت أراقص كل وريقة من وريقات الخريف ، التقطت بعض وريقات دسستها فى الحافظة وإنطلقت إلى العمل .
عندما دقت الساعة التاسعة سرت فى الممر الذى يفصل بين مكتبى ومكتب السيد المدير ..كان هذا هو الوقت المخصص لعرض المستندات التى تحتاج لتوقيعه ، تطل على الممر نوافذ يجلس خلف زجاجها حشود من الموظفين ، ينتظرون مرورى بعد ان أصبحت فى الشهرين الماضيين أختال وأتبختر اثناء ذهابى وعودتى .
لم أعتد التانق ولا التبختر لكنى اصبحت كذلك منذ شهرين تقريباً بعدما التقيت به ، كان جالساً فى مواجهة المدير ، و عندما اصطدمت عينى بعينه أدركت مدى روعة الحياة وعرفت كيف أن هذا العالم الذى نعيشه ليس كما يصوره البعض ..لو كان العالم سيء حقاً فأنى له أن يحوى كل هذا الجمال والسحرالذى هبط من السماء ، لا اعتقد أنه مر من طرقاتنا ولا داس بقدميه على أرضنا ، بل تهادى هابطاً خلف أجنحة حنون تجلى بعدها ببهاء ورونق على هذا المقعد ، أعتقدت ساعتها أن السماء لابد وأنها قد ارسلت فلذة من كبدها إلى الأرض.
كنت اقلب الحافظة التى تحوى المستندات أمام المدير وعينانا متلاقيتان ، لم أنتبه إلا عندما نقر المدير على مكتبه بقلمه
انصرفت بلا رغبة فى الإنصراف ، كيف لحمقاء أن تترك خلفها هذا السماوى ، تأكدت ساعتها ان إرادتى خرجت ولن تعود ابداً وانها تحطمت تماماً امام هذا الرجل ، اقسمت ؛ لو تمكنت منه ألا أغادر فيه اخمصاً ولا ذوآبة ، سرت عائدة إلى مكتبى وأنا غارقة في لحظ عينيه الأمرة التى تنقل الأشياء إلى حيث شاء ، اصطحبت معى عطره ؛ ليس عطراً بشرياً كالذى عهدناه ولكنه طبع وصبغ من الجنة التى أصبحت أعرف أحد ساكنيها ، عندما تكلم أمامى سمعت صوتا قادما من قلب دافىء لا من جوف فارغ كأجوافنا ، وطاردتنى ابتسامته التى أسكنت حيرتى و قهرت انوثتى واوقفت عندى كل حيل النساء .
سرت فى الممر لحظات وبعدها التفت لأجده يطارد بخطاه خطواتى البطيئة ، توقفت خاشعة أمامه مستعدة لأوامره طائعة لها مهما كانت
قال لى مبتسماً واثقاً :
- سأعود فى الخريف وعندها سيطول حديثنا
مضت شهوراً وتركنى على وعد بلقاء طويل تعجلت فيه قدوم الخريف ، لم أر خلال غيابه رجلاً يمشى على قدمين ، أصبح العالم فارغاً فى ناظرى ، لم يعد يتسع لرجل آخر غيره.
*****
قطعت الممر فى هذا الصباح الخريفى الذى انتظرته طويلاً إلى غرفة المدير تحدونى أمال عريضة فى اللقاء المرتقب .
عندما أغلقت الباب ورائى وجدت المدير وأمامه رسالة وصلته عبر الفاكس ، كتم أنفاسة حتى انتهى من القراءة ، صمت تماما ثم سالت من عينيه دموعاً ، فى النهاية وقّع على الفاكس بما يفيد أنه قد طالع الوارد وحوله لى للحفظ ، عندما قرات مافيه عرفت أنه كان ضمن ضحايا الطائرة التى سقطت ليلة أمس ، وضعته فى حافظتى وانصرفت محترقة غارقة ومحطمة.