الثلاثاء، 22 سبتمبر 2009

عندما تعودين

هذا القط بجوارى يشعر بالضجر
أمامى كوب القهوة الوحيد
تعصف بى فكرة
طلاء الحوائط باللون القرمزى
تزعجنى كسرة الخبز الجافة هناك على الطاولة
والقط بجوارى يفكر فى الرحيل
وأنا أبحث عن الدفء فى الوسائد المبعثرة
واعتذر لزجاجات عطرك المكسورة
خلف المرايا المدهونة بالسحاب..
القط
والعصفور على النافذة
وكوب القهوة
يشعرون بالوحدة..
مثلى أنا
لا أتوقف عن سماع الموسيقى الحزينة
ولا أتذكر مذاق النور
أو رائحة الحب
ربما أفعل
عندما تعودين
أخبىء سوائل القمر البيضاء
فى جيب معطفك المنسى
اراوغ القمر الذى يبحث عنها
لن أعيدها له
ربما افعل
عندما تعودين
سأحتضن القط
قطك المدلل
سأغمره دفئا
وأعود به للأريكة
لمشاهدة نشرة الأخبار المزعجة
فقط
عندما تعودين

الجمعة، 11 سبتمبر 2009

الخميس، 10 سبتمبر 2009

بلاى بوى

أعشق الساقطات وأكره نفسى ، ليس هناك فى حياتى ما هو أهم من مجلة البلاى بوى ، لو علمتْ بطلات وموديلات هذا المصور أن اصدارته ستسقط فى يدى انا ملك العالم فى القبح و الدمامة ما تفننّ فى هذا الإغواء.
أسقط بين دفتى المجلة فتتلقانى أجساد بمقاييس محسوبة بدقة ، اطارد بعينى هذا البروفيل الجانيى للنهود المحفوفة بضوء أبيض يتماهى مع شمع ذائب بين النور والجسد والعق بقلبى الخصور والأرداف الأغريقية وأنفلت واتمزق ليسكن بعضى فى الزوايا الكثيرة التى تصنعها السيقان النائمة والواقفة والمنبطحة والمضمومة والمتقاطعة واهيم مع طرف لسان متدل بوله من شفاة مصورة بالحجم الكبير فتبدو هوة مشتعلة اتمنى السقوط فيها دون ان ادرى هل ستطفىء أم ستزيد رغباتى اشتعالاً.
دمامتى نفّرت كل النساء وحالت بينى وبين حرارة أجسادهن ، لم تسمح لى أية أمراة بالإقتراب فإكتفيت بالتصوير ، أصبحت أشعر بقداسة ما عندما أنظر ناحية أى امرأة ، لا لوم عليهن فى ما يبدين لى من نفور ، عندما انظر فى المرآة أعذرهن جميعاً ، فانا لا اطيق النظر إلى وجهى فى الدقائق التى امشط فيها شعرى .
منذ دهر وأنا أختبىء وحدى خلف أكداس الورق فى أرشييف النيابة التابع لوزارة العدل ، أصادق التراب المتكاثف على الملفات والأضابير مفتخراً أنى المكتشف الأول وصاحب براءة اختراع الساعة الترابية ، عمرى و الأتربة يتسابقان فى التكاثف علىّ وعلى الرفوف و انا ما أزال قابعاً متوحداً مع الصور العارية التى أحياناً كنت الفظها وأتململ و اضيق بها لكنى اعود فى لحظات وألملم وريقاتها داعيا أن تسكن الروح أى صورة من تلك الصور الكثيرة فى المجلة ، لكنى أعود مرة اخرى ناكصا متمنياً ألا يستجاب لى ، فمن يضمن أن لو سكنت الروح الصور انها لن تنفر وتفر هاربة ، ثم لا يبقى لى من بعد ذلك شيئاً .
كنت جاث خلف مكتبى الملم صورى و وريقات مجلتى حتى وقعت عينى على أطراف اصابع أقدام تطل فى نافذة فضية من مقدمة حذاء رقيق ..أصابع أقدام أنثى ..أنثى حقيقة ، بدت لى بلحات حمراء رقيقة تتراص و تبرز منها أظافر كريستالية ، ارتفعت تدريجيا متكئا على المكتب حتى صرت أمامها ، كانت ترتدى بانتالون جينز ضيق وقميص أبيض ، ينساب شعرها الكستنائى على اكتافها ، بدت لى موديل بل أجمل من كل موديل فى المجلة قالت انها تبحث عن رئيس القسم وأنها متدربة وأنها مرسلة بخطاب رسمى لتعمل فى الأرشيف شهوراً قبل إعادة تدويرها على الاقسام الأخرى .
طول مدة تواجدها كنت أتابعها وأسير معها وخلفها بعينى وانفى وحواسى المختبئة خلف قضبان الحرمان المخثر فى ورم النفس ، أسترق لمحة لأعلى صدرها المرمرى عندما تضطر للإنحناء ، ولقطة للأرداف عندما أسير وراءها ، اقترب منها مدعيا السذاجة و اصطدم بها متغافلاً لأعبق روحى برائحة جسدها وأدور حولها مثل الكلب الأعور الجرب وانا أتشمم يائساً أى شبق لديها ، أنستنى رقتها دمامتى لكنى عندما تنبهتُ وتذكرت من أنا ، تراجعتُ ثم ابتعدتُ وفى النهاية سكنتُ فى مقعدى خلف مكتبى .
لم أعد أنظر فى البلاى بوى أصبحت مهتماً فقط بإطلالة و صولها كل صباح و معها حلوى تضعها على مكتبى بصحبة وردات ؛ مرة صفراء ومرة حمراء ومرة بيضاء وهى تضحك كطفلة وترفض أن يقال عنها أنها بريئة ولا تعرف أن فى هذا كل البراءة ،فى صباح من صباحات اشراقاتها ؛ أخرجتْ من حقيبتها غطاء رأسها تعصبت به وتشمرت ثم لم تنتهى إلا بعد ان نّظّمت ونظفت وأضاعت التراب تماماً ، كنت اشيعه كأنما سياتى دورى وأنها ستلتفت إلى لتضعنى فى صندوق القمامة مع التراب لكنها انشغلت بترتيب الأوراق فى نسق جميل منمق ومرتب ، اضىء المكان و اكتسب كل شىء رونقاً و اصبح نظيفاً مشرقا مزقت البلاى بوى ووضعتها فى كيس أسود وألقيتُ بها فى القمامة ، لم أعد اختلس النظر لجسدها ، لم يعد يعنينى أى جسد ، كلما حاولت العبث معها اصطدم بضوء يحول بين نفسى النزقة وعينى المتهجمة ، هذا الضوء لم يكن سوى سنا برق روحها الشافية .

الأربعاء، 26 أغسطس 2009

حافظة اوراق الخريف

بالرغم من سعادتى الغامرة فى هذا الصباح إلا أنى استيقظت على أنباء تحطم و سقوط و غرق الطائرة القادمة إلى القاهرة من باريس ، ترحمت على أرواح الضحايا وتصورت بشاعة الكارثة التى أسكنت مئات البشر فى قاع البحر .
وقفت طويلاً أمام مرآتى ربما أطول من أى وقت مضى ، انتهيت من زينتى حتى صرت كزيتونة لامعة ترتدى أديم كرزة حمراء ، عبرت فى الدرب القصير الواصل بين بوابة الطريق وباب المنزل ، داست قدمى أول طرد خريفى من أوراق شجر الفيكس المصطفة على جوانب الدرب القصير
كان أحساسى بالحياة فى أوجه حتى كدت أراقص كل وريقة من وريقات الخريف ، التقطت بعض وريقات دسستها فى الحافظة وإنطلقت إلى العمل .
عندما دقت الساعة التاسعة سرت فى الممر الذى يفصل بين مكتبى ومكتب السيد المدير ..كان هذا هو الوقت المخصص لعرض المستندات التى تحتاج لتوقيعه ، تطل على الممر نوافذ يجلس خلف زجاجها حشود من الموظفين ، ينتظرون مرورى بعد ان أصبحت فى الشهرين الماضيين أختال وأتبختر اثناء ذهابى وعودتى .
لم أعتد التانق ولا التبختر لكنى اصبحت كذلك منذ شهرين تقريباً بعدما التقيت به ، كان جالساً فى مواجهة المدير ، و عندما اصطدمت عينى بعينه أدركت مدى روعة الحياة وعرفت كيف أن هذا العالم الذى نعيشه ليس كما يصوره البعض ..لو كان العالم سيء حقاً فأنى له أن يحوى كل هذا الجمال والسحرالذى هبط من السماء ، لا اعتقد أنه مر من طرقاتنا ولا داس بقدميه على أرضنا ، بل تهادى هابطاً خلف أجنحة حنون تجلى بعدها ببهاء ورونق على هذا المقعد ، أعتقدت ساعتها أن السماء لابد وأنها قد ارسلت فلذة من كبدها إلى الأرض.
كنت اقلب الحافظة التى تحوى المستندات أمام المدير وعينانا متلاقيتان ، لم أنتبه إلا عندما نقر المدير على مكتبه بقلمه
انصرفت بلا رغبة فى الإنصراف ، كيف لحمقاء أن تترك خلفها هذا السماوى ، تأكدت ساعتها ان إرادتى خرجت ولن تعود ابداً وانها تحطمت تماماً امام هذا الرجل ، اقسمت ؛ لو تمكنت منه ألا أغادر فيه اخمصاً ولا ذوآبة ، سرت عائدة إلى مكتبى وأنا غارقة في لحظ عينيه الأمرة التى تنقل الأشياء إلى حيث شاء ، اصطحبت معى عطره ؛ ليس عطراً بشرياً كالذى عهدناه ولكنه طبع وصبغ من الجنة التى أصبحت أعرف أحد ساكنيها ، عندما تكلم أمامى سمعت صوتا قادما من قلب دافىء لا من جوف فارغ كأجوافنا ، وطاردتنى ابتسامته التى أسكنت حيرتى و قهرت انوثتى واوقفت عندى كل حيل النساء .
سرت فى الممر لحظات وبعدها التفت لأجده يطارد بخطاه خطواتى البطيئة ، توقفت خاشعة أمامه مستعدة لأوامره طائعة لها مهما كانت
قال لى مبتسماً واثقاً :
- سأعود فى الخريف وعندها سيطول حديثنا
مضت شهوراً وتركنى على وعد بلقاء طويل تعجلت فيه قدوم الخريف ، لم أر خلال غيابه رجلاً يمشى على قدمين ، أصبح العالم فارغاً فى ناظرى ، لم يعد يتسع لرجل آخر غيره.
*****
قطعت الممر فى هذا الصباح الخريفى الذى انتظرته طويلاً إلى غرفة المدير تحدونى أمال عريضة فى اللقاء المرتقب .
عندما أغلقت الباب ورائى وجدت المدير وأمامه رسالة وصلته عبر الفاكس ، كتم أنفاسة حتى انتهى من القراءة ، صمت تماما ثم سالت من عينيه دموعاً ، فى النهاية وقّع على الفاكس بما يفيد أنه قد طالع الوارد وحوله لى للحفظ ، عندما قرات مافيه عرفت أنه كان ضمن ضحايا الطائرة التى سقطت ليلة أمس ، وضعته فى حافظتى وانصرفت محترقة غارقة ومحطمة.

السبت، 22 أغسطس 2009

آخر عروض الشيطان

كانت الساعة تقترب من الواحدة بعد منتصف الليل و انا جالس على مقعد من خشب البامبو فى شرفة منزلى وأمامى طاولة بعثرت عليها أوراقى وقلمى وسجائرى ، بالرغم من تأخر الوقت إلا أن القاهرة لا تنام أبداً ، وخاصة ميدان التحرير الذى تطل عليه شرفتى .
داهمتنى ريح لا اتجاه ولا أوان لها ، أطاحت بكل أوراقى وبعثرتها كما بعثرت رماد السجائر الذى كان ساكنا فى الرمّادة التى أمامى ، و جعلته يدور فى موجات دوامية صارت تكبر وترتفع وتزداد سواداً حتى تشكلت كائناً على المقعد المقابل لى .
كان ضيفى الذى أتى بلا دعوة منى ينظر فى عينى مترقبا ثم تحول الترقب إلى تعجب عندما لم يجد منى إكتراثاً ولا وجلٍ بعد كل هذه المؤثرات السينمائية الى سبقت نزوله بساحتى.
كان سعيدا لما علم أنى أعرفه جيداً ، لأنى بذلك أكون قد وفرت عليه مشقة كبيرة ، أوضحت له وقتها أنى أّمُّر بمرحلة من حياتى لم أعد أشعر فيها بالخوف وأكدت له أنى لم أعد أتعجب كثيراً وذلك من كثرة ما عرض لى من رعب و دهش فى هذه الدنيا . جذب سيجارة من علبتى كمن يحتفل بشىء وقال بعد أن نفث دخاناً كثيفاً
- ماتت جدتك منذ دقائق
أعتذر لى ولكنه صرح لى أيضاُ بأنه كان يكرهها بشدة . الهواء الخانق المشبع بعوادم السيارات لم يمكننى من سحب ما يكفى منه لأعبر عن صدمتى وحزنى ، بكيت عائدا بذكرياتى إلى هناك حيث كانت تعيش ثم فقدتُ العلة فى البكاء ولم أعد أعرف هل كنت أبكيها أم كنت أبكى ذكريات المكان الذى غادرته مهاجراً إلى القاهرة للدراسة والعمل؟ ؛ كان بيتا فسيحا منفصلاً عن القرية تمامًاً ينظر الى الحقول من بوابته الخلفية ومن الأمام يفصل بينه وبين غابة النخيل الرائعة ؛ باحة حوت كل طفولتى بمرحها وأنطلاقها ، كان ذلك بيتها الذى أحتوانا أنا و أمى وأبى وبقية العائلة.
قال لى ضيفى العزيز وكانما كان يقرأ ما يدور برأسى ويعرف فيما أفكر
- كانت جدتك تصر على البسملة والحوقلة كلما تذكرت ، كانت تطردنى بعيداً بكلماتها ، لم أكن أضمر لأيكم شراً ، كنت فقط سعيدا بوجودى هناك.
حقاً كانت جدتى تفعل ذلك و تذكرنى قبل الطعام وتقول:
- سم الله وإلا شاطرك الشيطان طعامك
كنت أتعمد الجهر بالبسملة امامها قبل الطعام ، كانت تجزل لى العطاء لقاء ذلك ، وأذكر انها كافأتنى على ذلك بسخاء غير مسبوق ذات مرة ، دست فى جيبى ثروة قوامها عشرة جنيهات .
كان ضيفى ينظر فى وجهى وكأنه يشاهد عرضا لشريط ذكرياتى التى يعتبرها ذكرياته هو الآخر بل ويتدخل فى أوقات معينة معلقاً كما فعل عندما تذكرت العشرة جنيهات وما فعلت بها ، قال لى : توقف عند هذا اليوم بالذات ، وتذكر ما فعلته ، والجيلاتى أو الأيس كريم كما يسمونه فى القاهرة.
كنت قد قطعت المسافة من البيت إلى القرية ثم البقالة التى كانوا يسمونها الوكالة ، اشتريت اشياء كثيرة و انتظرت صيحة بائع الجيلاتى التى فشلت فى فك تراكيبها إلى اليوم و لكنها كانت صيحة مميزة لا تعنى إلا أن عربة الجيلاتى قد حلت بقريتنا. التهمت ثلاثة كونات من الجيلاتى ثم ابتعت لجدتى التى كانت تحبه واحدة ، عدت لها راكضاً ألعق ما سال على ظاهر يدى ، عندما أيقظتها اختطفت منى الجيلاتى راحت تلعق بنهم وعندما انتهت سألتها
- لم تقولى باسم الله يا جدتى
قال لى ضيفى :
- اتذكر ماذا قالت وقتها ؟
تعودت جدتى أن تبرر نسيانها بأن تدَّعى أنها قالت فعلاً ولكن سراً
ولكنها فى هذه المرة قالت لى :
- لم يكن هناك داعٍ يا ولدى ، فالشياطين لا تحب المثلجات
عندما ذهبت للقاهرة دعانى زملائى لنأكل البيتزا وكانت المرة الأولى ، ترددت قبل أن أقول " بسم الله " فأنا لم أكن اعرف هل يحب الشياطين البيتزا أم يكرهونها، تماماً كما ترددت أمام اول سيجارة ، هل ينفع أن نبسمل قبل التدخين وهل سترضى الشياطين مشاركتنا الضرّ لو لم نقل بسم الله ؟!
ضحك ضيفى وهو يشاهد حيرة أفكارى وبعد ذلك إعتدل فى جلسته وقال:
- جدك وجدى ُطردوا من الجنة فى أول الزمان ، مات جدك وإستراح ، وبقى جدى يتعذب بذكرياتها بعد ان كان يرفل فيها ، وانا اليوم فى القاهرة أتعذب مثله وأبكى جنتى التى نشأنا فيها أنا وأنت ... إذا كان قد قدر لى ان أظل مصاحباً لك كظلك وإذا لم يكن هناك فكاك من ذلك فلن أكون سلبياً مثل جدى لذلك سأعرض عليك إتفاقاً ... لماذا لا تترك ميدان التحرير والقاهرة ونعود إلى قريتنا ؟ لو عدت بنا فإنى أعدك بل وأقسم لك أنى سأتوقف عن غوايتك ...أنا لا يعنينى هلاكك بل تعنينى الجنة ، هل ستعود ؟ فكر فى العرض....

نهاية الإبداع

أتعجب عنندما أفكر فى حال الدنيا اذا فقد المبدعون قدراتهم الإبداعية تلك ، لا أسأل عن حال المبدعين ساعتها ولكنى أسأل عن حال الدنيا وما ستؤؤل إليه
فالإبداع هو الخلق المستمر لأشياء ليست موجودة ، وبالضرورة يجب ألا تكون موجودة من قبل ، هذه المخلوقات عندما تكتمل بين يدى صانعها تعمل بدورها لتنحت فى الصخور مجارى لتسيير أنهار الحياة التى تسقى ذلك الزمن المتعطش دائما ، فالحياة بلا إبداع إذاً لن تستمر ولن تتوقف عن التراجع المضطرد بل وسيستمر إضمحلالها وصولا إلى الزوال الكامل والفناء السريع.
المبدع يجدد للحياة شبابها ويلبسها ثوب الزفاف كل ليلة ، وهو الذى يرتق لها غشاء بكارتها كلما فضته صورايخ الجهل و ألغام التخلف ، والإبداع على الإطلاق هو الذى من أجله تدور الشمس وحولها تدور الأرض فى رقصة الأبد التى لم تتوقف ولن تتوقف إلا مع توقف قلب آخر المبدعين .
الأزمة الحقيقية تحدث عندما يفقد المبدع إيمانه بما بين يديه ، فالأنبياء كانوا اول من آمن بما جاؤا به للناس ،الا أن الأنبياء لم يتوقفوا عن الدعوة كلما أنحسر عدد المستجبين ولم يزدهم الأعراض ألا استمرارا ، حتى ان أكثرهم لم يعش حتى يرى ثمرة دعوته .
لعلى لم أهرطق عندما ربطت بين الإبداع والنبوة ،فدأبُ المبدعين والأنبياء الإتيان بأشياء مغايرة لما هو سائد فى عصورهم ، وعموما لكل زمن أنبياؤه وفى العصر الردىء يكثر الأنبياء ، وإذا اتفقنا على أننا نتقلب فى أتون ردة حضارية غير مسبوقة ، و اذا أتفقنا على أن الانحسار الثقافى لم يتبعه حتى الآن اى مد منذ امد طويل فى وطننا العربى ، فلابد اننا سنتفق على أننا فى أشد الحاجة إلى المبدعين وبخاصة أصحاب الأقلام منهم ، وليس ذلك لفضلهم على من هم سواهم و لكن لإمتداد أثرهم وطليعيتهم ولخطورة رؤاهم التى تتحدد على أساسها ملامح المستقبل ومصير الأجيال ، و مع ذلك فالطريق أمام أصحاب الأقلام - الكتاب و الشعراء والروائيين- وعر تشتد وعورته مع ازدياد اعراض المتلقى المنشغل إما بوضع رأسه فى نير هنا أو "مفرمة" هناك بينما يقضى غيره بقية عمره وهو يحاول الفكاك و الخلاص غير منتبه إلى أن الفكاك لن يكلفه سوى مجهود بسيط يعادل المجهود الصادر من أطراف أصابع تتصفح كتاب .
حقاً إن نصيب الأدباء والشعراء من المتلقيين أصبح نذراً يسيراً لا يغرى ربما بالبحث ولا بالنظر ، ولا يحث أصحاب الأقلام على إخراج مافى بطونهم من عسل ، لكنى أقول لكل الأقلام ولأصحابها ولكل من وضع اسمه على غلاف كتاب أو أسفل مقالة : نعم أن الأمم تغفو وأن غفوتها ربما تطول و ان الإعراض عن الكتاب يأتى دائما كشاهد عيان على التردى وكمظهر قو ى من مجموع مظاهر هذه الغفوة ، إلا أن أرفف المكتبات وخزانة الكتب هى أول ما يقصدون بعد يقظتهم مباشرة، فعلينا إذاً ألا نتوقف ، وأن نرفع من درجة جهازيتنا مع زيادة الفضاء عمارة بإبداعاتنا المختلفة .

تحية لكل صاحب قلم فى عالمنا العربى فهو جدير بكل إحترام ، و ربما أكثر من غيره من مبدعى العالم وهذ ليست شوفينية ، بل هى موضوعية تزداد وجاهة إذا عرفنا ان أكثر أدبائنا لا يؤجرون إلا قليلا على أبداعهم بل أنى اعرف كثيرين منهم ينفقون على كتبهم ولا ينتظرون عوائداً، مخالفين بذلك ما هو معروف ومعمول به فى دول لا تنتمى إلى إقليمنا ، ربما تكون أقل منا ثروة ولكنهم أكثر يقظة يتمتعون بمناخ صحو جعلهم يعرفون للكاتب منزلته ويعتمدون عليه فى رسم المستقبل وتحديد المصير، ولذلك فهم من ناحية يوفرون له ما لا يتوفر لغيره من تسهيلات فى كافة مناحى الحياة رعاية منهم لإبداعاته و استرضاعا لقلمه وما يخرج منه واستعجالا له حتى يطلق سراح طيور أفكاره من أوكارها ، ومن ناحية اخرى يرسخون قيم المطالعة فى نفوس الجماهير القارئة بطرائق وأساليب كتلك التى نروج لها فى بلادنا للهو والمرح والكسل والإستهلاك.
سنظل مستهلكين لحضارات الآخرين وما يمليه ذلك علينا من تنازل و قبول للمرفوض إذا لم نقرا ونبحث عن الحكمة فى بطون الكتب ، الروايات ، القصص و دواويين الشعراء ، ليس هذا فحسب بل والتفاعل مع الكاتب ومناقشته مباشرة او مراسلتة أعتصارا لحكمته وتفاعلاً حياً معه.
سيظل الكتاب نهراً حميما يحتضننا بين دفتيه فى أى وقت و يقبل النزول فى ضيافتنا حيثما كنا ، وهذه العلاقة بين الكتاب وقارئه لم يُرى لها مثيلا حتى اليوم مع أى وسيطة حديثة من وسائط نقل المعرفة ، كما أن الكتاب عادة ما يتخذ من قارئه شريكا بعد أن يستفز مهابط الوحى ومصابيح الأستكشاف والتصوير فى نفسه ، والبون شاسع بين المشاهد و الشريك لو حاولنا المقارنة بين الكتاب و غيره من الوسائط أمام المتلقى