الخميس، 21 مايو 2009

صابر و راضى


قرية باردة و البحر فيها دائماً هو السيد الغضوب . تقف على حوافه بيوت الصيادين متردية مرتعشة و مستسلمة ، توارثوا اسطورة " البحر سيرضي عنهم و سيلقي اليهم كنزا ذات يوم" ، مات اجدادهم دون ذلك ولم تتحقق الاسطورة ، ظل ايمانهم بها يتجدد و يقوي من جيل الي جيل الي ان جاءت تلك الليلة الباردة بعد ان خلفت وراءها نهارا بائسا , اجتمع صابر واهله حول النار , ارسوا فوقها القدر الوحيد لديهم والقوا فيه قطع اللحم ! قال لزوجته بعد ان شبع انفه من البخار المتصاعد من القدر "لا يوجد احلي من رائحة اللحم المسلوق في ليالي الشتاء الباردة".ثم رفع يديه للسماء داعيا لمن نفحه الفخذة الضأن التى صارت قطعاُ تتقلب فى النار
- عفي الله عن اصحاب القافلة وابقي واكثر من امثالهم ...
لم يرضى ذلك الزوجة التى كانت صابرة قبل ان تصبح مؤخراً ناقمة ، أعيتها الحيلة لتدبر أمور الحياة ، قالت "طبعا ! ما بقي امثالهم الا ليساعدوكم علي التسو ل ... يارجل اتذكر اخر مرة زارنا فيها اللحم قبل هذه ؟!
زوجة الصياد الحزينة هذه قبلته زوجاً مجبرة وآملة ، عندما جاءت من الريف هاربة من مرارة الصبر سقطت فى ملوحة الفقر .
كان الرجل يتعلل دائماً أمامها مثل بقية أهل القرية
- ما حيلتي؟ لم تمر قوافل منذ شهور!
- تعني انك لم تجد من يتصدق عليك منذ شهور! ،و الله لو كان الامر بيدي لتركت هذه البلد و بحثت عن بلد اخر ، مالذي يبقيكم هاهنا...؟! لا بحر يجود .. ولا ارض و لا سماء ..مالذى يبقيكم !!
- الكنز ، قريبا جدا سنصبح اثرياء كل النبؤات تؤكد ان الآوان قد اقترب
- اف
- تقولين هذا لانك لست من اهل هذه البلدة
- كان يوما أسود
- ماذا تقصدين؟
- اليوم الوحيد الذي خرجت فيه من قرية الصيادين لتزورنا
- (متظاهرا بالندم ) نعم , كان يجب ان اتزوج ابنة صياد ، لكن ... النصيب غلاب !
اومأت مستنكرة .
- نعم انه النصيب الغلاب.

وضعت في فمه قطعة كبيرة من اللحم , عله يصمت .... ناموا بعد ان استقر اللحم والمرق في بطونهم التي لم تعتد الا الخواء والجوع ، اتفقت معه وهى تحل جدائل شعرها المرهق علي أن يذهب بكرة الي البحر مع أول شعاع ليصطاد ويبع ويكسب قوته كالرجال و هددته بأنها ستذهب للصيد إن هو لم يفعل ، لم يستيقظوا حتي انتصف النهار، أيقظتهم أشعة الشمس المتسربة من شقوق اسقف وجدران المسكن.
اعدت له الشاي ، ثم وضعت شبكته علي عاتقه
- اذهب...... فتح الله عليك
في منتصف الطريق بين المساكن والخليج التقي براضى و آخرين عائدين من الصيد ، تبادلو التحيه.
قال راضى
- انتصف النهار يا صابر! هل تنوي الصيد في منتصف النهار؟!!
( بهدؤ واثق) نعم
- وفقك الله ورزقك من حيث لا تحتسب!
مضي في طريقه حتي بلغ مجمع الخلجان ، احتفظ بسرواله و تحلل من بقية اسماله المهلهلة ، القاها بجوار حطام قارب صغير . بسط شباكه وراح يذرع الشاطيء حالما ، ولي ادباره للبحر ونظر إلي شرق الجنوب حيث طريق القوافل ، ترك شباكه مبسوطة و راح يخطو متسللا نحو الطريق ، اعتدل في مشيته عندما علم انه لا يتسلل إلا من نفسه التي تلومه ، راح ولم يقابل اي قافلة ، تمني لو كان قد عاد بمثل ما عاد في اليوم السابق فيريح نفسه وينقلب إلي أهله مسرورا ، لكنه عاد إلي البحر يسابق قرص الشمس ، لملم أطراف شباكه ، جذبها لكنها لم تنجذب ، تاكد له انه لن يفلح بمفرده . ربط اطرافها في قائم المرسي القديم وهرع الي البلدة يطلب العون . هب راضى لنجدته ، ذهبوا وبيدهم مشاعل شقوا بها الظلام في اتجاه الخليج . انطفات المشاعل واختفى راضى ، عاد صابر الي اهله بلا شبكة ولا صيد ، يحمل علي وجهه ذهول و تسأولات أثارت تسأولات
- أين جلبابك وشبكتك يا صابر؟
توعدها بعينيه ، لو سالت مرة اخري .......
قبع وحيدا ً في ركن من المسكن ، استند الي الحائط ينظر الي الباب ، قضى الليل يغفو ثم يصحو حتى استقبل شروق الشمس بلهفة الهارب من الاسر ، وجد اهل البلد مجتمعين عند الخليج ، صدم أذنيه نشيج مختلط بهدر البحر و عبارات العجب ونظرات الاتهام ..و أسئلة كثيرة لا اجابة لها
- اين راضى ؟
- هل خطفه البحر؟
- ولماذا لم يخطف صابر ايضا؟
لم تكن لديه اجابة ولا تتمة لقصة ، كل ما كان يذكره ان البحراختطفه بين الغروب والعشي ، لا يستطيع تذكر كل ما حدث ، كان يشعر برعدة كلما حاول أن يتذكر " انها يد سوداء امتدت من جوف الظلام وابتلعت راضى المسكين"
- ماذا اقول للناس؟
- وان قلت هل سيصدقونني؟
- سيتاكد لهم جنوني
عاد الي مسكنه ، القي جسده المنهك للنوم ، التهمه حلم جمعه براضى ، قال له مقهقهاً
- هل تظن ان البحر خطفنى حقا ؟ ثم قال
- اخشي أنك و أهل القرية واهمين ، تظنون انى غريق في اعماق البحار؟! ... لقد ذهبت ياسيدى مندوب عن اهل البلد ، أتفاوض من أجل الكنز
صحا من نومه مضطربا ، دنت اليه يد في الظلام ، ازداد اضطرابا ، ارتعد ثم اكتشف انها يد زوحته الممدودة بالماء ، جلس راجفا ممسكا ذراعها و الكوب يقذف مافيه من أثر الرعدة.
- مازلت لاتريد ان تجيبني ؟ اين جلبابك وشبكتك؟ ماذا حدث لك ولصاحبك ؟ أين ذهب ؟
قال بضمير مستريح مستعيداً نبرة صوته الواثقة بعد ان تنهد زافرا توتره و إضطرابه
- راضى ذهب مندوباً عنا جميعاً ...عن كل أهل البلد...يتفاوض من أجل الكنز